Monday, February 10, 2014

جاكو فان دورميل .. الذي لا يعرفه أحد


"لا تتذكر الشخصيات بدايتها أو مولدها؛ لذا كل منها يتخيل ما شاء. (توتو) شبه مولده بحجر ألقي في البحر، و بأن شقيقه ولد في غسالة ملابس. حتى لو كان الزمن يستمر للأبد، و الكون لا نهائي؛ فإن الحياة تستمر لفترة قصيرة، و في مساحة محددة، و ليس هذا بالأمر الحزين كما قد يبدو"

**

إنتقامُ عبثي من حياة لم تعاش
في ليلة ميلاد (جاكو فان دورميل) إلتف حبله السري حول رقبته و عانى من نقص وصول الأكسجين للمخ. ظن أطباءه أنه على وشك الموت، أو في أحسن الأحوال الإعاقة الذهنية للأبد.
لكن ليلة ميلاد (توماس) و (ألفريد) شهدت حادثًا من نوعٍ آخر. شب حريق هائل بالمشفى. هرعت كل أم لرضيعها لتهرب به، لكن واحدة ترددت أمام طفلين، ثم أخذت أحدهما و هربت به من الموت.
هكذا يقف الطفل (توماس) أمام (ألفريد) ليطلب منه في بساطة أن يمنحه حياته مؤكدًا أنها بالأساس ليست له، و إنما لـ (توماس)، و أنهما تمت مبادلاتهما ليلة الحريق، و أنه يذكر ذلك بدقة. (توتو) الهزيل الذي يسخر منه كل أقرانه كان يهرب من إحباطاته إلى خيالات كونه "توتو البطل" الذي يقاتل العصابات الشريرة التي تختطف أبيه. أن تكون بطلاً بدلاً من أن تكون هاربًا من حياتك ذاتها. و كأنك تعيد مونتاج ثمانين عامًا من حياتك العبثية لتحاول أن تجعلها الأفضل.
حين يقف (توماس) الشاب مجدداً على عتبة باب (ألفريد) يعرض عليه (ألفريد) أن يستبدل معه حياته. "ألم تكن تريدها؟ خذها". ثم يقف بعدها (توماس) الكهل الذي تسيطر عليه فكرة إنتقامية لقتل (ألفريد)، يفتح (ألفريد) الكهل الباب، فلا يجد (توماس) ما يحقق له إنتقامه العبثي.  فيضحك طويلاً !
ما الذي أضاع (توتو) عمره لأجله ؟ هل كان الأمر يستحق ؟ هل حياته هي الأفضل أم تلك الحياة التي لم يحصل عليها؛ فقط لأنه لم يحصل عليها ؟

**

"في أفلامي يحاول الأبطال رواية حياتهم على طريقتهم، فيما عدا (جورج). (جورج) يعيش الحياة كما هي. لا يحتاج للتظاهر، لا يحتاج لإعادة رواية حياته بطريقة أخرى، لا يحتاج للتشبه بآخرين،"

**

في اليوم الثامن خلق الله (جورج)
لم يصاب (جاكو) بأية إعاقات ذهنية، لكن والدته حذرته طويلاً من النظر في عيون مصابي (متلازمة داون) لأنهم يخجلون من النظر المباشر في عيونهم. لم ينظر (جاكو) في عيونهم طويلاً، لكنه عمل معهم كثيراً و كان أقربهم لقلبه: (جورج). يؤمن (جورج) بالعلامات. بأنك إن لمست شجرة، تصبح شجرة. يتبع الأسهم أينما ظهرت موقنًا أنها ستقوده لوجهته. حين يرحل جميع الأباء مع أبناءهم و يبقى هو وحده بدار الرعاية التي يقطنها، يقرر أن يحمل حقيبته و لوحة لمنزله يستدل منها عليه، و يرحل. يضيع البطرقات التي تشابهت عليه إذ يحاول الوصول لولدته التي لم تزره.
أما (هاري) فقد نسي أن يصطحب طفلتيه من المحطة في غمرة عمله كمدرب للتنمية البشرية لموظفي أحد البنوك. يبتسم (هاري) كثيراً في عمله، و حين يعود لمنزله يتجرع وحدته في صمت، و يبتلعها بخيالات لمحادثات وهمية مع زوجته يحاول أن يفهم منها لماذا تركته. (جورج) يريد – ببساطة – الزواج من (ناتالي)، و (هاري) يريد رأب التصدعات التي تملأ حياته و علاقاته بزوجته و ابنتيه. و حين تتقاطع حياتا (جورج) و (هاري) تتكون بينهما صداقة فريدة يجد فيها كل منهما دفء العلاقات الإنسانية و بهجة الحياة، و لو لأيامٍ قليلة.

**

"في (مستر نوبادي) يقع الطفل في أزمة الخيار المستحيل. ينظر لكل الإحتمالات الممكنة لمستقبله، لكنه لا يعرف أيها يختار. كل الحياوات ممتعة و مثيرة، كلها بها الكثير من الحب، و الكثير من القسوة. كلها مؤلمة، و كلها سعيدة."

**

كل الطرق متاحة. كل الطرق مستحيلة
ولد (نيمو نوبادي) – تعني (لا أحد – لا أحد) باللاتينية و الإنجليزية – يوم التاسع من فبراير، نفس يوم ميلاد (جاكو فان دورميل)، و في حين نشأ (جاكو) بين أفراد أسرته بعد إنتقالهم إلى ألمانيا، ثم العودة لبلجيكا، فإن (نيمو) حين بلغ التاسعة وقع في الإختيار المستحيل. يقف على محطة القطار و أمه تخطو نحو العربة التي توشك عى الحركة، ينفلت الطفل من يدي أبيه و يركض. هكذا تصير كل الإحتمالات ممكنة. لو لحق بالقطار و عاش مع أمه فهل سيعثر على حبيبته ؟ هل سيجد سعادته ؟ و إن بقى مع أبيه فمن سيتزوج ؟ هل سينجب طفلين من (جين) أم ثلاثة من (إليز) ؟ هل سيعمّر حتى سن المائة و الثامنة عشر أم سيقضي نحبه شابًا غرقًا في النهر ؟ كل الإحتمالات متاحة إذا لم تختار أيها. كل الحياوات ممكنة إذا لم تسك دربّا محدداً. لكن (نيمو) إذ يطلع على كل إحتمالات مستقبله لا يدري أيها يختار ! إن مساحة الإختيار زادت الأمر تعقيدًا عن لو كانت حياته محددة مسبقًا و لا إختيار فيها. "في الشطرنج يسمونها (سوبسوانج) حين تكون الحركة الوحيدة المتاحة، هي ألا تتحرك."
يقف (نيمو) على قضبان السكة الحديد ناظراً للعربة التي تحمل أمه بعيداً، و ولوالده الذي يركض ناحيته و يقرر أن كل الخيارات المتاحة قاسية، و لا تعجبه !

**

ما هو الواقع؟ كيف هو العالم الحقيقي؟ يمكنني أن أتظاهر أن العالم الحقيقي هو ما أشاهده في التلفاز، هو الحصول على وظيفة، أو نقود، أو تكوين عائلة و إنجاب أطفال. لا أستطيع الجزم لأنني أرى الحياة من الخارج. لكني أجيد الحكي، أجيد حكي ما أراه، ما أسمعه، و ما أشعر به. ربما يكون الواقع مختلفًا تمامًا عن كل ما أفكر فيه. لذا فأنا أظن أن أسئلة الطفولة عن ماهية (الواقع) لا إجابة لها بعد ! لكنها تبقى شيقة رغم ذلك."
**

تسعة أفلام قصيرة و ثلاثة أفلام سينمائية طويلة هي كل ما جاد به (جاكو فان دورميل) على جمهور السينما. أولها Toto The Hero  الذي أنتج عام 1991 تبعه و بعد خمسة أعوام بفيلم The Eighth Day  و كليهما نال إستحسانًا من من الجماهير و النقاد، ثم اختفى لثلاثة عشر عامًا كاملة ليعود بعمله الأخير Mr. Nobody الذي استغرق في كتابته ستة أعوام كاملة.

(توتو) هو طفله الأول، الفتى الذي هرب من واقعه لأسطورته، أجاد الهرب فلم يفعل سواه. تعجّل دومًا فلم يحصل على مبتغاه؛ حينها يبدأ في الركض إبتعاداً عن الواقع، أو عن دار رعاية للمسنين يقضي فيها سنوات عمره الأخيرة. لكن على عكس (توتو) فإن (جورج) هرب إلى الحياة لا منها. ربما لأنه لا يجيد إستيعابها بالكامل. يأكل (جورج) الشيكولاتة حتى يمرض، و يطلب الزواج من كل من تعامله بلطف. ينسج أسطورته بصدق لا يتعارض مع كونه طفلاً (مانغوليًا) فيتصوّر نفسه فارسًا تتاريًا يختطف حبيبته و يرحل بها. و حتى (هاري) أكبر أبطاله سنًا و أكثرهم تعقلاً يهرب يومًا من عمله، من واقعه، يرحل مع أصدقائه الجدد إلى حيث شاء. أما (نيمو) فهو الطفل الذي رأى كل شئ فلم يختر أي شئ. لا يعرف أي الدروب يسلك. لكنه في مسارات حياته المختلفة يهرب من إحداها للقص، فيكتب عن حياة أخرى غير تلك التي يحياها، حتى (نيمو) الذي عرف كل شئ يمارس فعل الهرب !

كل شخوص (جاكو فان دورميل) هاربة، خائفة، تبحث عن نهاياتٍ بديلة و سيناريوهات مختلفة، فعل نمارسه نحن كذلك دون أن ندري، لكن (جاكو) الذي يؤمن بأنه لا يعرف ماهية (الواقع) بعد يجيد رواية واقعنا عنا. ينسج في أفلامه قصصًا محكمة، يمزج الواقع بفانتازيا خيالات أبطاله دون إفتعال ليلعب – ببراعة – على أوتار خيالات مشاهديه و مشاعرهم و هروبهم.

و كما يجيد (جاكو) اللعب على أوتار إنسانية مشاهديه، فإن شقيقه الأكبر (بيير) كان يجيد صناعة عالم موازٍ لشخوص شقيقه بموسيقاه. يمنح كل بطلٍ مقطوعته الخاصة. (توتو) تصحبه موسيقى حزينة لشخصٍ هارب، لم يعش حياته. يُمنح (جورج) موسيقى ملحمية لفارسٍ منغولي يواجه العالم ليحظى بحبيبته. أما (نيمو) فيحظى بموسيقى حالمة لطفلٍ سلك كل الطرق الممكنة لحياته، و كأنها حلمٌ طويل بدأ و انتهى على قضبان السكة الحديدية في محطّة قطار صغيرة.
رحل (بيير) و اختفى (جاكو) بلا مخططات معلنة، تاركًا من يعرفونه بإنتظاره.

لكل الدفء الذي أدخله (جاكو فان دورميل) في حياتي، و لمتعة مشاهدة أفلامه أكتب عنه من بلدة تبعد آلاف الكيلومترات عن موطنه، و بلغة لا يعرفها فقط لأقول: "كل عام و أنت بخير عزيزي (جاكو)" ..



2 comments:

  1. رائعة بكل بساطة .. جميل العرض والاسلوب .. عرفتني الى شخص لم اعرف عنه شئ رغم مشاهدتي لفيلم مستر نو بادي .. فيلم رائع يوحي بروعة القائمين عليه .. الله ينور

    ReplyDelete
  2. مسألة الاختيار(النظر الى الهاوية) حسب تعبير الفلسفة الوجودية و ما يترتب عليه من دوار و قلق و مسؤلية.و عند الاختيار وجب التضحية بامكانات مخالفة.وعدم الاختيار امكانية مراوغة في حياة واحدة تسوق الي نتائجها..كثير من الاسئلة التي تطرحها افلام العبقري جاكو فان دورميل بشكل بصري يحبس الانفاس و تماس الواقع الانساني واحتمالاته ........
    كتابة جميلة و اسلوب رائع وتناول عميق

    ReplyDelete