Thursday, February 5, 2015

إناريتو وكيتون: الفضيلة غير المتوقعة للسينما



"في نهايةٍ مبكرة للشتاء، في مارس، الصرخة الضعيفة من الخارج بدت وكأنها صوتٌ في رأسه. أدرك أنه سمعها، صرخة طائر، في ضوء الصباح أو قبله بقليل، مع رياح مارس المبكرة"
من قصيدة بعنوان "ليست أفكاراً عن الشئ، بل الشئ نفسه" للشاعر (والاس ستيفينز)، والتي يعرفها البعض باسم "الشئ هو ذاته، لا ما قيل عنه  A thing is a thing, not what is said of that thing" وهي الجملة التي لُصقت على مرآة غرفة الملابس للممثل (ريجان تومسون) الشخصية الرئيسية في فيلم Birdman (or The Unexpected Virtue of Ignorance) : الرجل الطائر (أو الفضيلة غير المتوقعة للتجاهل). قد لا تلفت الجملة إنتباهك وأنت تشاهد الفيلم، لكنك حين تستعيدها وأنت تنتهي منه، تُدرك أنها تم توضع هناك عبثًا، وتلخص ببساطة الأزمة التي يعيشها (تومسون) بين ما يكونه وما يريد أن يراه الناس فيه.

في أواخر الثمانينات وبدايات التسعينات شارك الممثل (مايكل كيتون) مع المخرج (تيم بيرتون) في بطولة جزأين من سلسلة أفلام Batman وقدم فيها (كيتون) شخصية بروس واين/الرجل الوطواط، ونجح الفيلمان تجاريًا وجماهيريًا بما يكفي ليستمر (بيرتون) في تقديم جزأين لاحقين أقل نجاحًا، لكن دون (كيتون). بعدها بدأ الممثل الصاعد – وقتها – في شق طريقه، ثم بدأ في التعثر والتخبط في أدوارٍ يصعب أن تتذكرها دون الحاجة للبحث بين صفحات الإنترنت.

(ريجان تومسون) لا يختلف كثيراً عن (كيتون)، فهو ممثل قدم منذ عقدين من الزمن سلسلة أفلام ناجحة جماهيريًا عن بطل خارق يدعى (الرجل الطائر)، ثم اختفى. وها هو يحاول أن يستعيد اسمه بكتابة وإخراج وإنتاج وبطولة مسرحية على خشبة مسرح (القديس توماس) في برودواي.
لكن (ريجان) إذ يقترب موعد عرض مسرحيته، تفاجئه مشكلة البحث عن ممثل بديل لشريكه في البطولة، وهكذا يظهر (مايك شاينر) في الصورة. (شاينر) الذي يُبهر (تومسون) بحفظه للدور، وقدراته التمثيلية العالية، لا يكف عن إثارة المشاكل مع زملاءه أو مع (تومسون). لكنه في لحظاته الخاصة يجلس أعلى سطح المسرح ويعترف لـ (سام) ابنة (تومسون) أنه مزيّف. لحظات الحقيقة الوحيدة التي يمتلكها هي تلك التي يقضيها على خشبة المسرح ربما لأنه حينها يحب ما يفعله ويجد تقديره لذاته.

لا تنتهي أزمات (تومسون) عند غرور وجنون (مايك شاينر)، ولا عند علاقته العابرة بزميلته الممثلة (لورا)، ولا عند ابنته (سام) التي خرجت لتوها من مصحة لعلاج الإدمان ومنحها هو فرصة العمل معه كمساعدته، ليسهل عليه أن يكون بجانبها كتعويضٍ عن عدم وجوده طوال حياتها، ولا تنتهي عند الناقدة المسرحية (تابيثا ديكنسن) التي تظهر عداءًا غير طبيعي له، قبل أن تشاهد المسرحية وتكتب عنه المقال الذي أًخذ عنه الاسم الكامل للفيلم ( الفضيلة غير المتوقعة للتجاهل)؛ لكن (تومسون) –بالإضافة لكل ما سبق- تتلبسه كشيطان شخصية (الرجل الطائر). يسمع الأصوات في رأسه بأول مشهد، ثم يتوالى ظهور (الطائر) كصوت داخلي غاضب يستنكر وجوده في هذا المكان، وأداءه لهذه المسرحية وهو الخارق القادر على تحريك الأشياء والقتال والطيران، أو يظهر واضحًا جليًا للعيان مرافقًا لـ (تومسون) كظله ثم دافعًا له ليحّلق عاليًا كما يليق به، مقاتلاً وحش معدني عملاق ومدمراً للأشياء بفرقعة من أصابعه.
هذا الكيان الغامض الذي يسيطر على (تومسون) لا يعاديه، يدفعه ليصدق أنه لا يحتاج لتقدير الجمهور لأنه أعظم منهم، فهو (الرجل الطائر) صاحب القدرات الخارقة، فما حاجته للإجتهاد وتقديم مسرحية طويلة يثبت بها أنه ممثل جيد ؟ لكن وجوده يضع (تومسون) في مأزق عقلي بين الرضوخ له والإيمان بقدراته الخارقة الوهمية، وبين تحقيق حلمه في الحصول على تقدير الآخرين، ما يصل به في النهاية لتقديم مشهده الأخير على المسرح بكل تفاصيله وإنفعالاته.

المواجهات بين (شاينر) و(تومسون) تظهر قدر التناقض بين الاثنين، وبين ما يبحثا عنه. فحين يبحث (تومسون) عن تقدير المشاهدين محاولاً محو الصورة المختزنة بعقولهم عن كونه ممثل عادي أدى شخصية بطل خارق، مخاطراً في سبيل ذلك بكل أمواله لإنتاج المسرحية، نجد (شاينر) على النقيض لا يعبء برأي أحد، شديد السخرية والحدة، يبحث عن رضاه الذاتي فيما يفعل، وللغرابة يجد تقدير الجمهور دون جهد !
ربما هذه المصادمات بينهما هي ما منح (تومسون) الثقة بالنهاية ليؤمن بما يقوله له (الرجل الطائر) ويرضى عن نفسه بما يكفي متجاهلاً حتى رضا الجمهور الذين يوجه لهم فوهة مسدسه في مشهده الأخير من المسرحية، ربما حينها أدرك أن التقدير الذي يبحث عنه يمكن في رضاه هو عما يفعله.

سيناريو (إناريتو) السريع المتصاعد، ورغم أن الفترة الزمنية لا تمنح شخصياته فرصة للتطور، لكنه منحنا من التفاصيل مايكفي لنقترب أكثر. لنمتزج بكواليس المسرح و طرقاته، لنعرف أكثر عن تلك الشخصيات، نعذرها، نتسامح مع أخطاءها ونتفهمها. تلك التفاصيل التي ربما لن تلاحظها مع المشاهدة الأولى، لتجعل المشاهدة الثانية أكثر متعة وأكثر عمقًا.
بالكاد ستشعر بمرور الساعتين و أنت تحدق في الشاشة أمام مشهد واحد طويل صاغته كاميرات مدير التصوير (إيمانويل لوبزكي) صاحب أوسكار العام الماضي عن فيلم (Gravity) والذي استطاع أن يقدم رؤية (آليخاندرو إناريتو) بإمتياز بزواية مختلفة وكاميرا تتحرك خلف (كيتون)، ثم تنتقل بمحاذاته، ثم أمامه وسط حشود حقيقية لرواد (تايمز سكوير) الذين شتتهم (إناريتو) عن مشهده بإستئجار عازفين حقيقيين قدموا عرضهم وسط الشارع ! تتحرك الكاميرا، فيتغير المشهد. لا تدرك بدقة مع الحركة أين بدأ المشهد وأين انتهى، أين بدأ اليوم وكيف انتهى ومتى استعد ممثلو المسرحية لمشهدهم التالي أو يومهم اللاحق. لا يرد الفضل في تحوّل الفيلم إلى مشهد واحد طويل لمدير التصوير وحده، فمونتاج )دوجلاس كريس) و(ستيفن ميروني) -اللذان تجاهلتهما ترشيحات الأوسكار- لن يشعرك أبداً بأي قطع حدث بين المشاهد، ولن يشعرك بالملل. 

أما عن الممثلين فإختيارهم كان شديد الدقة والتوفيق: (مايكل كيتون) الذي أجمع الجميع على أنه يمثل شخصيته الحقيقية، أنكر ذلك تمامًا، مؤكداً أن لا وجه للشبه بينه وبين (تومسون). كذلك المخرج (إناريتو) عقّب بأن "فقط ممثل لا يشبه (تومسون) قادر على أداء دوره بكل مشاكله وخيباته". سواءًا كان (كيتون) يجسد شخصيته الحقيقية أم لا، فلا خلاف على أنه أعاد تقديم نفسه من جديد كممثل قادر على التنقل بين الدراما، الكوميديا السوداء، الفانتازيا، والجنون في لحظات. مشاهده مع خيال (الرجل الطائر) الذي يطارده و يحادثه هي أعظم ما في الفيلم. سواءًا في غضبه أو في تقبله له وتصديقه والطيران معه. تعبيرات وجهه الغاضبة، الحزينة، المستسلمة وكل إحباطاته التي اقتربنا منها وسهّل هو علينا التفاعل معها. كل هذا جعل (كيتون) الممثل الأفضل هذا العام وأعاد لذهني لا إراديًا أداء (ناتالي بورتمان) في فيلم (Black Swan) خاصة مع تشابه الأجواء العامة بين الفيلمين والشخصيات الرئيسية، وفارق طفيف في إطار التناول بين الكوميديا السوداء والدراما السوداء. وكأن وجود (إدوارد نورتون) و(الرجل الطائر) العابثان بعقل (مايكل كيتون)، هو المقابل لوجود (البجعة السوداء) في عقل (ناتالي بورتمان). 

(إدوارد نورتون) لا يقل عظمة عن (كيتون). هو الآخر ممثلٌ كان ينبئ بمستقبل باهر منذ ظهوره أمام (ريتشارد جير) في فيلم ((
Primal Fear ثم بعدها في (American History X)، وهو كذلك قدم شخصية البطل الخارق مرة في فيلم (The Incredible Hulk)، لكنه كان يتنقل بين أدوارٍ –رغم جودتها- لم تمنحه التقدير الكافي، ليقدم هنا دوراً شديد التميز، فهو الممثل المغرور شديد الجنون أمام (كيتون)، صادقًا وتعيسًا أمام (إيما ستون) في مشهدين قصيرين على سطح المسرح. 
(إيما) قدمت دور ابنة (تومسون) المضطربة، التي تحاول أن تساند أبيها في عمله، تجاهد في العمل بالمسرح، وتعيش تعاستها الخاصة بمفردها. مشاهد قليلة لكنها تُبيّن جانبًا تعيسًا آخر لـ (تومسون) وعلاقته بابنته.
أدوارٌ ثانوية أخرى لا تقل جودتها عن بقية فريق العمل، بين (نايومي واتس) الممثلة التي تبحث عن النجاح والتقدير على خشبة (برودواي) في حين أن كل ما يسعدها هو كلمات تشجيع قليلة من (تومسون). (آندريا رايسبورو) الممثلة الأخرى التي تريد أن تنجب طفلاً لكن يخونها جسدها، ودور قصير قدمته (إيمي راين) كزوجة (تومسون) السابقة التي تسانده وربما الوحيدة التي أدركت أن التقدير الذي يبحث هو عنه يستنزفه حتى النهاية. وأخيراً إعادة إكتشاف لـ (زاك جاليفناكس) في كوميديا مختلفة عن تقديمه كأبله.


تجربة فيلم (Birdman) تجربة مختلفة وشديدة الإمتاع، مزجت بين المساحة الواسعة للسينما، وخصوصية المسرح وتكثيفه، بين الدراما الثقيلة والشخصيات المضطربة، وبين الكوميديا السوداء والفانتازيا التي لا تتعارض مع واقعية الفيلم وصدق شخصياته، كل ذلك على خلفية من أصوات الطبول التي تبدو مزعجة في البداية لكنها الأكثر ملائمة لإزدحام الأفكار برأس (تومسون). حتى مشهد النهاية المفاجئ والغير مفهوم، يترك على الوجه إبتسامة رضا كتلك التي ارتسمت على وجه (سام تومسون) التي نظرت للأعلى وصدّقت على قدرات والدها على الطيران، تسبقها نظرته لذاته في المرآة والتي تماثل ختام قصيدة (والاس ستيفنز): "وبدت كأنها إدراكٌ جديد للواقع"وكأنه أخيراً أدرك حقيقته حصل على التقدير الذي انتظره، وتصالح مع شيطانه.


Monday, February 10, 2014

جاكو فان دورميل .. الذي لا يعرفه أحد


"لا تتذكر الشخصيات بدايتها أو مولدها؛ لذا كل منها يتخيل ما شاء. (توتو) شبه مولده بحجر ألقي في البحر، و بأن شقيقه ولد في غسالة ملابس. حتى لو كان الزمن يستمر للأبد، و الكون لا نهائي؛ فإن الحياة تستمر لفترة قصيرة، و في مساحة محددة، و ليس هذا بالأمر الحزين كما قد يبدو"

**

إنتقامُ عبثي من حياة لم تعاش
في ليلة ميلاد (جاكو فان دورميل) إلتف حبله السري حول رقبته و عانى من نقص وصول الأكسجين للمخ. ظن أطباءه أنه على وشك الموت، أو في أحسن الأحوال الإعاقة الذهنية للأبد.
لكن ليلة ميلاد (توماس) و (ألفريد) شهدت حادثًا من نوعٍ آخر. شب حريق هائل بالمشفى. هرعت كل أم لرضيعها لتهرب به، لكن واحدة ترددت أمام طفلين، ثم أخذت أحدهما و هربت به من الموت.
هكذا يقف الطفل (توماس) أمام (ألفريد) ليطلب منه في بساطة أن يمنحه حياته مؤكدًا أنها بالأساس ليست له، و إنما لـ (توماس)، و أنهما تمت مبادلاتهما ليلة الحريق، و أنه يذكر ذلك بدقة. (توتو) الهزيل الذي يسخر منه كل أقرانه كان يهرب من إحباطاته إلى خيالات كونه "توتو البطل" الذي يقاتل العصابات الشريرة التي تختطف أبيه. أن تكون بطلاً بدلاً من أن تكون هاربًا من حياتك ذاتها. و كأنك تعيد مونتاج ثمانين عامًا من حياتك العبثية لتحاول أن تجعلها الأفضل.
حين يقف (توماس) الشاب مجدداً على عتبة باب (ألفريد) يعرض عليه (ألفريد) أن يستبدل معه حياته. "ألم تكن تريدها؟ خذها". ثم يقف بعدها (توماس) الكهل الذي تسيطر عليه فكرة إنتقامية لقتل (ألفريد)، يفتح (ألفريد) الكهل الباب، فلا يجد (توماس) ما يحقق له إنتقامه العبثي.  فيضحك طويلاً !
ما الذي أضاع (توتو) عمره لأجله ؟ هل كان الأمر يستحق ؟ هل حياته هي الأفضل أم تلك الحياة التي لم يحصل عليها؛ فقط لأنه لم يحصل عليها ؟

**

"في أفلامي يحاول الأبطال رواية حياتهم على طريقتهم، فيما عدا (جورج). (جورج) يعيش الحياة كما هي. لا يحتاج للتظاهر، لا يحتاج لإعادة رواية حياته بطريقة أخرى، لا يحتاج للتشبه بآخرين،"

**

في اليوم الثامن خلق الله (جورج)
لم يصاب (جاكو) بأية إعاقات ذهنية، لكن والدته حذرته طويلاً من النظر في عيون مصابي (متلازمة داون) لأنهم يخجلون من النظر المباشر في عيونهم. لم ينظر (جاكو) في عيونهم طويلاً، لكنه عمل معهم كثيراً و كان أقربهم لقلبه: (جورج). يؤمن (جورج) بالعلامات. بأنك إن لمست شجرة، تصبح شجرة. يتبع الأسهم أينما ظهرت موقنًا أنها ستقوده لوجهته. حين يرحل جميع الأباء مع أبناءهم و يبقى هو وحده بدار الرعاية التي يقطنها، يقرر أن يحمل حقيبته و لوحة لمنزله يستدل منها عليه، و يرحل. يضيع البطرقات التي تشابهت عليه إذ يحاول الوصول لولدته التي لم تزره.
أما (هاري) فقد نسي أن يصطحب طفلتيه من المحطة في غمرة عمله كمدرب للتنمية البشرية لموظفي أحد البنوك. يبتسم (هاري) كثيراً في عمله، و حين يعود لمنزله يتجرع وحدته في صمت، و يبتلعها بخيالات لمحادثات وهمية مع زوجته يحاول أن يفهم منها لماذا تركته. (جورج) يريد – ببساطة – الزواج من (ناتالي)، و (هاري) يريد رأب التصدعات التي تملأ حياته و علاقاته بزوجته و ابنتيه. و حين تتقاطع حياتا (جورج) و (هاري) تتكون بينهما صداقة فريدة يجد فيها كل منهما دفء العلاقات الإنسانية و بهجة الحياة، و لو لأيامٍ قليلة.

**

"في (مستر نوبادي) يقع الطفل في أزمة الخيار المستحيل. ينظر لكل الإحتمالات الممكنة لمستقبله، لكنه لا يعرف أيها يختار. كل الحياوات ممتعة و مثيرة، كلها بها الكثير من الحب، و الكثير من القسوة. كلها مؤلمة، و كلها سعيدة."

**

كل الطرق متاحة. كل الطرق مستحيلة
ولد (نيمو نوبادي) – تعني (لا أحد – لا أحد) باللاتينية و الإنجليزية – يوم التاسع من فبراير، نفس يوم ميلاد (جاكو فان دورميل)، و في حين نشأ (جاكو) بين أفراد أسرته بعد إنتقالهم إلى ألمانيا، ثم العودة لبلجيكا، فإن (نيمو) حين بلغ التاسعة وقع في الإختيار المستحيل. يقف على محطة القطار و أمه تخطو نحو العربة التي توشك عى الحركة، ينفلت الطفل من يدي أبيه و يركض. هكذا تصير كل الإحتمالات ممكنة. لو لحق بالقطار و عاش مع أمه فهل سيعثر على حبيبته ؟ هل سيجد سعادته ؟ و إن بقى مع أبيه فمن سيتزوج ؟ هل سينجب طفلين من (جين) أم ثلاثة من (إليز) ؟ هل سيعمّر حتى سن المائة و الثامنة عشر أم سيقضي نحبه شابًا غرقًا في النهر ؟ كل الإحتمالات متاحة إذا لم تختار أيها. كل الحياوات ممكنة إذا لم تسك دربّا محدداً. لكن (نيمو) إذ يطلع على كل إحتمالات مستقبله لا يدري أيها يختار ! إن مساحة الإختيار زادت الأمر تعقيدًا عن لو كانت حياته محددة مسبقًا و لا إختيار فيها. "في الشطرنج يسمونها (سوبسوانج) حين تكون الحركة الوحيدة المتاحة، هي ألا تتحرك."
يقف (نيمو) على قضبان السكة الحديد ناظراً للعربة التي تحمل أمه بعيداً، و ولوالده الذي يركض ناحيته و يقرر أن كل الخيارات المتاحة قاسية، و لا تعجبه !

**

ما هو الواقع؟ كيف هو العالم الحقيقي؟ يمكنني أن أتظاهر أن العالم الحقيقي هو ما أشاهده في التلفاز، هو الحصول على وظيفة، أو نقود، أو تكوين عائلة و إنجاب أطفال. لا أستطيع الجزم لأنني أرى الحياة من الخارج. لكني أجيد الحكي، أجيد حكي ما أراه، ما أسمعه، و ما أشعر به. ربما يكون الواقع مختلفًا تمامًا عن كل ما أفكر فيه. لذا فأنا أظن أن أسئلة الطفولة عن ماهية (الواقع) لا إجابة لها بعد ! لكنها تبقى شيقة رغم ذلك."
**

تسعة أفلام قصيرة و ثلاثة أفلام سينمائية طويلة هي كل ما جاد به (جاكو فان دورميل) على جمهور السينما. أولها Toto The Hero  الذي أنتج عام 1991 تبعه و بعد خمسة أعوام بفيلم The Eighth Day  و كليهما نال إستحسانًا من من الجماهير و النقاد، ثم اختفى لثلاثة عشر عامًا كاملة ليعود بعمله الأخير Mr. Nobody الذي استغرق في كتابته ستة أعوام كاملة.

(توتو) هو طفله الأول، الفتى الذي هرب من واقعه لأسطورته، أجاد الهرب فلم يفعل سواه. تعجّل دومًا فلم يحصل على مبتغاه؛ حينها يبدأ في الركض إبتعاداً عن الواقع، أو عن دار رعاية للمسنين يقضي فيها سنوات عمره الأخيرة. لكن على عكس (توتو) فإن (جورج) هرب إلى الحياة لا منها. ربما لأنه لا يجيد إستيعابها بالكامل. يأكل (جورج) الشيكولاتة حتى يمرض، و يطلب الزواج من كل من تعامله بلطف. ينسج أسطورته بصدق لا يتعارض مع كونه طفلاً (مانغوليًا) فيتصوّر نفسه فارسًا تتاريًا يختطف حبيبته و يرحل بها. و حتى (هاري) أكبر أبطاله سنًا و أكثرهم تعقلاً يهرب يومًا من عمله، من واقعه، يرحل مع أصدقائه الجدد إلى حيث شاء. أما (نيمو) فهو الطفل الذي رأى كل شئ فلم يختر أي شئ. لا يعرف أي الدروب يسلك. لكنه في مسارات حياته المختلفة يهرب من إحداها للقص، فيكتب عن حياة أخرى غير تلك التي يحياها، حتى (نيمو) الذي عرف كل شئ يمارس فعل الهرب !

كل شخوص (جاكو فان دورميل) هاربة، خائفة، تبحث عن نهاياتٍ بديلة و سيناريوهات مختلفة، فعل نمارسه نحن كذلك دون أن ندري، لكن (جاكو) الذي يؤمن بأنه لا يعرف ماهية (الواقع) بعد يجيد رواية واقعنا عنا. ينسج في أفلامه قصصًا محكمة، يمزج الواقع بفانتازيا خيالات أبطاله دون إفتعال ليلعب – ببراعة – على أوتار خيالات مشاهديه و مشاعرهم و هروبهم.

و كما يجيد (جاكو) اللعب على أوتار إنسانية مشاهديه، فإن شقيقه الأكبر (بيير) كان يجيد صناعة عالم موازٍ لشخوص شقيقه بموسيقاه. يمنح كل بطلٍ مقطوعته الخاصة. (توتو) تصحبه موسيقى حزينة لشخصٍ هارب، لم يعش حياته. يُمنح (جورج) موسيقى ملحمية لفارسٍ منغولي يواجه العالم ليحظى بحبيبته. أما (نيمو) فيحظى بموسيقى حالمة لطفلٍ سلك كل الطرق الممكنة لحياته، و كأنها حلمٌ طويل بدأ و انتهى على قضبان السكة الحديدية في محطّة قطار صغيرة.
رحل (بيير) و اختفى (جاكو) بلا مخططات معلنة، تاركًا من يعرفونه بإنتظاره.

لكل الدفء الذي أدخله (جاكو فان دورميل) في حياتي، و لمتعة مشاهدة أفلامه أكتب عنه من بلدة تبعد آلاف الكيلومترات عن موطنه، و بلغة لا يعرفها فقط لأقول: "كل عام و أنت بخير عزيزي (جاكو)" ..



Friday, August 30, 2013

Before Midnight - كيف وصلنا لهنا ؟



تنبيه هام : هذه التدوينة هرتلة شخصية بحتة لا علاقة لها بنقد الفيلم أو خلافه ! كما أنها تُفسد الفيلم تمامًا لمن لم يشاهده بعد. اقرأ على مسئوليتك الشخصية ..

منذ عام تقريبًا قررت الكتابة عن ثنائية (Before Sunrise - Before Sunset) إذ أنها تمثل لي يوتوبيا العلاقات الإنسانية. كنت وقتها أعرف بمشروع الفيلم الثالث بعد تسع سنوات جديدة، و أبديت تخوفي مما يمكن أن يحدث في (Before Midnight) ..
ثم شاهدتُ الفيلم.. الثنائي المثالي الذي أحببته منذ الجزء الأولى، و ازداد التعلق به مع الجزء الثاني بتفاصيلهما و تعقيدات حياتيهما. تسع سنوات أخرى قد مرّت منذ آخر مرة شاهدنا فيها (جيسي) يتجاهل طائرته ليجلس لمشاهدة (سيلين) تغني لـ (نينا سيمون) و هي تتمايل في حين تعد الشاي..
حينها تمنيت – كما الكثيرون – أن أعرف ماذا سيحدث بعدها، و بعدها هذه تعني تسع سنوات كاملة من عمريهما و أعمارنا. (جيسي) انفصل عن زوجته الأمريكية و يبدو أن علاقته بابنه تؤرقه بإبتعاده عنه في السنوات الأهم في عمره، خاصة مع كراهية الزوجة السابقة لزوجها و والد ابنها، ذلك الذي تركها من أجل الفرنسية التي قضى معها يومين فقط يفصلهما تسع سنوات !
هناك توأم لطيف كذلك (إيلا) و (نينا) و محادثة بين (جيسي) و (سيلين) عن تعقيدات كونهما والدين و كيف يؤديان مهمتهما مع إجماعهما على كونهما "
Shitty parents" ..
في منزل مضيف العائلة الكاتب اليوناني يدور حوار رائع بين الجميع، أشخاص جدد يشاركون الثنائي في النقاش حول العلاقات العاطفية و الزواج. يبدو أن هناك توتر طفيف بينهما يتعلق بشعور (جيسي) بالتقصير تجاه ابنه الصغير، و منه يصل لـ (سيلين) رغبته في الإنتقال إلى شيكاجو – رغم أنه لم يصرح بذلك – و تجد فيها مبرراً لتسخط عليه !
الحديث على المائدة كان عظيمًا حقًا !
تقول (آنا) :
- لما بأسمع حكاياتكم دي، باسأل نفسي إذا كانت فكرة الحب الأبدي دي لسه موجودة ! أنا عارفة إننا هاننفصل في النهاية.. جدتي كتبت رسالة لعيلتها كلها و هي على فراش الموت. ستة و عشرين صفحة استهلكت منهم تلات صفحات و هي بتحكي عن لبس صممته لمسرحية. كتبت عن صحابها كلهم، و عن جدي كتبت بالظبط تلات جمل: "راح الحرب"، "اتنقلنا بسبب شغله"، "مات" ! نصيحتها كانت: "ماتستهلكيش نفسك في الحب و الرومانسية، الصداقة و الشغل هما السعادة" ..

(آنا) رغم رأيها ذلك إلا أنها تتمسك بالإلتصاق بصديقها حتى أنهما يتركا كاميرا محادثات الـ (Skype) مفتوحة حتى أثناء نومهما ليتخطا المسافة و الإبتعاد الملموس !

Saturday, January 19, 2013

فاطمة ...


عزيزتي فاطمة ..

كنت أظن أن الكتابة إليكِ في عيدك ستكون أكثر سهولة عن ذلك، لكني الآن ادركت كم هي شاقة و كأنها نقشٌ على ماء .. ببساطة لا كلمات تجيد تعريف تلك العلاقة البسيطة المعقدة التي تربطنا .. يكفيني أنكِ تعرفين : )

بدأتُ الأمر بإحتفال بعيد مولدك، لكنني في الواقع أحتفل أكثر بودٍ دام لـ ما يقرب من خمس سنوات مرت سريعًا حتى أنني و أنا أحصيها الآن أصابتني الدهشة ! هل أعرفك حقًا منذ خمس سنوات ؟ 
و على الرغم من دهشتي من كون تلك السنوات الخمس مرت سريعًا، لكنني اندهشت أكثر حين اكتشفت أنهم فقط خمس سنوات ! كل ذلك الدفء و الصدق و الحب و الحكي و التحليق بعيداً عن الواقع بتفاصيله، كل هذا حدث في خمس سنواتٍ فقط ؟

(تذكري أنه ليس فقط عيد ميلادك، لكنها بداية تلك الصداقة الغريبة التي جمعت أربعة ساحرات حالمات و شاب فريد من نوعه .. كل سنة و إحنا سوا)
كل عام و أنتِ رائعة .. كل عام و أنتِ حالمة، دافئة كما أنتِ