Thursday, February 5, 2015

إناريتو وكيتون: الفضيلة غير المتوقعة للسينما



"في نهايةٍ مبكرة للشتاء، في مارس، الصرخة الضعيفة من الخارج بدت وكأنها صوتٌ في رأسه. أدرك أنه سمعها، صرخة طائر، في ضوء الصباح أو قبله بقليل، مع رياح مارس المبكرة"
من قصيدة بعنوان "ليست أفكاراً عن الشئ، بل الشئ نفسه" للشاعر (والاس ستيفينز)، والتي يعرفها البعض باسم "الشئ هو ذاته، لا ما قيل عنه  A thing is a thing, not what is said of that thing" وهي الجملة التي لُصقت على مرآة غرفة الملابس للممثل (ريجان تومسون) الشخصية الرئيسية في فيلم Birdman (or The Unexpected Virtue of Ignorance) : الرجل الطائر (أو الفضيلة غير المتوقعة للتجاهل). قد لا تلفت الجملة إنتباهك وأنت تشاهد الفيلم، لكنك حين تستعيدها وأنت تنتهي منه، تُدرك أنها تم توضع هناك عبثًا، وتلخص ببساطة الأزمة التي يعيشها (تومسون) بين ما يكونه وما يريد أن يراه الناس فيه.

في أواخر الثمانينات وبدايات التسعينات شارك الممثل (مايكل كيتون) مع المخرج (تيم بيرتون) في بطولة جزأين من سلسلة أفلام Batman وقدم فيها (كيتون) شخصية بروس واين/الرجل الوطواط، ونجح الفيلمان تجاريًا وجماهيريًا بما يكفي ليستمر (بيرتون) في تقديم جزأين لاحقين أقل نجاحًا، لكن دون (كيتون). بعدها بدأ الممثل الصاعد – وقتها – في شق طريقه، ثم بدأ في التعثر والتخبط في أدوارٍ يصعب أن تتذكرها دون الحاجة للبحث بين صفحات الإنترنت.

(ريجان تومسون) لا يختلف كثيراً عن (كيتون)، فهو ممثل قدم منذ عقدين من الزمن سلسلة أفلام ناجحة جماهيريًا عن بطل خارق يدعى (الرجل الطائر)، ثم اختفى. وها هو يحاول أن يستعيد اسمه بكتابة وإخراج وإنتاج وبطولة مسرحية على خشبة مسرح (القديس توماس) في برودواي.
لكن (ريجان) إذ يقترب موعد عرض مسرحيته، تفاجئه مشكلة البحث عن ممثل بديل لشريكه في البطولة، وهكذا يظهر (مايك شاينر) في الصورة. (شاينر) الذي يُبهر (تومسون) بحفظه للدور، وقدراته التمثيلية العالية، لا يكف عن إثارة المشاكل مع زملاءه أو مع (تومسون). لكنه في لحظاته الخاصة يجلس أعلى سطح المسرح ويعترف لـ (سام) ابنة (تومسون) أنه مزيّف. لحظات الحقيقة الوحيدة التي يمتلكها هي تلك التي يقضيها على خشبة المسرح ربما لأنه حينها يحب ما يفعله ويجد تقديره لذاته.

لا تنتهي أزمات (تومسون) عند غرور وجنون (مايك شاينر)، ولا عند علاقته العابرة بزميلته الممثلة (لورا)، ولا عند ابنته (سام) التي خرجت لتوها من مصحة لعلاج الإدمان ومنحها هو فرصة العمل معه كمساعدته، ليسهل عليه أن يكون بجانبها كتعويضٍ عن عدم وجوده طوال حياتها، ولا تنتهي عند الناقدة المسرحية (تابيثا ديكنسن) التي تظهر عداءًا غير طبيعي له، قبل أن تشاهد المسرحية وتكتب عنه المقال الذي أًخذ عنه الاسم الكامل للفيلم ( الفضيلة غير المتوقعة للتجاهل)؛ لكن (تومسون) –بالإضافة لكل ما سبق- تتلبسه كشيطان شخصية (الرجل الطائر). يسمع الأصوات في رأسه بأول مشهد، ثم يتوالى ظهور (الطائر) كصوت داخلي غاضب يستنكر وجوده في هذا المكان، وأداءه لهذه المسرحية وهو الخارق القادر على تحريك الأشياء والقتال والطيران، أو يظهر واضحًا جليًا للعيان مرافقًا لـ (تومسون) كظله ثم دافعًا له ليحّلق عاليًا كما يليق به، مقاتلاً وحش معدني عملاق ومدمراً للأشياء بفرقعة من أصابعه.
هذا الكيان الغامض الذي يسيطر على (تومسون) لا يعاديه، يدفعه ليصدق أنه لا يحتاج لتقدير الجمهور لأنه أعظم منهم، فهو (الرجل الطائر) صاحب القدرات الخارقة، فما حاجته للإجتهاد وتقديم مسرحية طويلة يثبت بها أنه ممثل جيد ؟ لكن وجوده يضع (تومسون) في مأزق عقلي بين الرضوخ له والإيمان بقدراته الخارقة الوهمية، وبين تحقيق حلمه في الحصول على تقدير الآخرين، ما يصل به في النهاية لتقديم مشهده الأخير على المسرح بكل تفاصيله وإنفعالاته.

المواجهات بين (شاينر) و(تومسون) تظهر قدر التناقض بين الاثنين، وبين ما يبحثا عنه. فحين يبحث (تومسون) عن تقدير المشاهدين محاولاً محو الصورة المختزنة بعقولهم عن كونه ممثل عادي أدى شخصية بطل خارق، مخاطراً في سبيل ذلك بكل أمواله لإنتاج المسرحية، نجد (شاينر) على النقيض لا يعبء برأي أحد، شديد السخرية والحدة، يبحث عن رضاه الذاتي فيما يفعل، وللغرابة يجد تقدير الجمهور دون جهد !
ربما هذه المصادمات بينهما هي ما منح (تومسون) الثقة بالنهاية ليؤمن بما يقوله له (الرجل الطائر) ويرضى عن نفسه بما يكفي متجاهلاً حتى رضا الجمهور الذين يوجه لهم فوهة مسدسه في مشهده الأخير من المسرحية، ربما حينها أدرك أن التقدير الذي يبحث عنه يمكن في رضاه هو عما يفعله.

سيناريو (إناريتو) السريع المتصاعد، ورغم أن الفترة الزمنية لا تمنح شخصياته فرصة للتطور، لكنه منحنا من التفاصيل مايكفي لنقترب أكثر. لنمتزج بكواليس المسرح و طرقاته، لنعرف أكثر عن تلك الشخصيات، نعذرها، نتسامح مع أخطاءها ونتفهمها. تلك التفاصيل التي ربما لن تلاحظها مع المشاهدة الأولى، لتجعل المشاهدة الثانية أكثر متعة وأكثر عمقًا.
بالكاد ستشعر بمرور الساعتين و أنت تحدق في الشاشة أمام مشهد واحد طويل صاغته كاميرات مدير التصوير (إيمانويل لوبزكي) صاحب أوسكار العام الماضي عن فيلم (Gravity) والذي استطاع أن يقدم رؤية (آليخاندرو إناريتو) بإمتياز بزواية مختلفة وكاميرا تتحرك خلف (كيتون)، ثم تنتقل بمحاذاته، ثم أمامه وسط حشود حقيقية لرواد (تايمز سكوير) الذين شتتهم (إناريتو) عن مشهده بإستئجار عازفين حقيقيين قدموا عرضهم وسط الشارع ! تتحرك الكاميرا، فيتغير المشهد. لا تدرك بدقة مع الحركة أين بدأ المشهد وأين انتهى، أين بدأ اليوم وكيف انتهى ومتى استعد ممثلو المسرحية لمشهدهم التالي أو يومهم اللاحق. لا يرد الفضل في تحوّل الفيلم إلى مشهد واحد طويل لمدير التصوير وحده، فمونتاج )دوجلاس كريس) و(ستيفن ميروني) -اللذان تجاهلتهما ترشيحات الأوسكار- لن يشعرك أبداً بأي قطع حدث بين المشاهد، ولن يشعرك بالملل. 

أما عن الممثلين فإختيارهم كان شديد الدقة والتوفيق: (مايكل كيتون) الذي أجمع الجميع على أنه يمثل شخصيته الحقيقية، أنكر ذلك تمامًا، مؤكداً أن لا وجه للشبه بينه وبين (تومسون). كذلك المخرج (إناريتو) عقّب بأن "فقط ممثل لا يشبه (تومسون) قادر على أداء دوره بكل مشاكله وخيباته". سواءًا كان (كيتون) يجسد شخصيته الحقيقية أم لا، فلا خلاف على أنه أعاد تقديم نفسه من جديد كممثل قادر على التنقل بين الدراما، الكوميديا السوداء، الفانتازيا، والجنون في لحظات. مشاهده مع خيال (الرجل الطائر) الذي يطارده و يحادثه هي أعظم ما في الفيلم. سواءًا في غضبه أو في تقبله له وتصديقه والطيران معه. تعبيرات وجهه الغاضبة، الحزينة، المستسلمة وكل إحباطاته التي اقتربنا منها وسهّل هو علينا التفاعل معها. كل هذا جعل (كيتون) الممثل الأفضل هذا العام وأعاد لذهني لا إراديًا أداء (ناتالي بورتمان) في فيلم (Black Swan) خاصة مع تشابه الأجواء العامة بين الفيلمين والشخصيات الرئيسية، وفارق طفيف في إطار التناول بين الكوميديا السوداء والدراما السوداء. وكأن وجود (إدوارد نورتون) و(الرجل الطائر) العابثان بعقل (مايكل كيتون)، هو المقابل لوجود (البجعة السوداء) في عقل (ناتالي بورتمان). 

(إدوارد نورتون) لا يقل عظمة عن (كيتون). هو الآخر ممثلٌ كان ينبئ بمستقبل باهر منذ ظهوره أمام (ريتشارد جير) في فيلم ((
Primal Fear ثم بعدها في (American History X)، وهو كذلك قدم شخصية البطل الخارق مرة في فيلم (The Incredible Hulk)، لكنه كان يتنقل بين أدوارٍ –رغم جودتها- لم تمنحه التقدير الكافي، ليقدم هنا دوراً شديد التميز، فهو الممثل المغرور شديد الجنون أمام (كيتون)، صادقًا وتعيسًا أمام (إيما ستون) في مشهدين قصيرين على سطح المسرح. 
(إيما) قدمت دور ابنة (تومسون) المضطربة، التي تحاول أن تساند أبيها في عمله، تجاهد في العمل بالمسرح، وتعيش تعاستها الخاصة بمفردها. مشاهد قليلة لكنها تُبيّن جانبًا تعيسًا آخر لـ (تومسون) وعلاقته بابنته.
أدوارٌ ثانوية أخرى لا تقل جودتها عن بقية فريق العمل، بين (نايومي واتس) الممثلة التي تبحث عن النجاح والتقدير على خشبة (برودواي) في حين أن كل ما يسعدها هو كلمات تشجيع قليلة من (تومسون). (آندريا رايسبورو) الممثلة الأخرى التي تريد أن تنجب طفلاً لكن يخونها جسدها، ودور قصير قدمته (إيمي راين) كزوجة (تومسون) السابقة التي تسانده وربما الوحيدة التي أدركت أن التقدير الذي يبحث هو عنه يستنزفه حتى النهاية. وأخيراً إعادة إكتشاف لـ (زاك جاليفناكس) في كوميديا مختلفة عن تقديمه كأبله.


تجربة فيلم (Birdman) تجربة مختلفة وشديدة الإمتاع، مزجت بين المساحة الواسعة للسينما، وخصوصية المسرح وتكثيفه، بين الدراما الثقيلة والشخصيات المضطربة، وبين الكوميديا السوداء والفانتازيا التي لا تتعارض مع واقعية الفيلم وصدق شخصياته، كل ذلك على خلفية من أصوات الطبول التي تبدو مزعجة في البداية لكنها الأكثر ملائمة لإزدحام الأفكار برأس (تومسون). حتى مشهد النهاية المفاجئ والغير مفهوم، يترك على الوجه إبتسامة رضا كتلك التي ارتسمت على وجه (سام تومسون) التي نظرت للأعلى وصدّقت على قدرات والدها على الطيران، تسبقها نظرته لذاته في المرآة والتي تماثل ختام قصيدة (والاس ستيفنز): "وبدت كأنها إدراكٌ جديد للواقع"وكأنه أخيراً أدرك حقيقته حصل على التقدير الذي انتظره، وتصالح مع شيطانه.